Archive | July 2020

مقدمة فى التصوف .. مقال بقلم الاستاذ الدكتور احمد الصباحي

بسم الله الرحمن الرحيم

للوهابية عدة مسائل بالنسبة لهم هي أصول فارقة لا جدال فيها ولا نقاش ، مسائل يبثونها بين الناس على أنها من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والحق غير ذلك. ومن أشهر هذه المسائل مسألة التوسل والاستغاثة (أي طلب الغوث) وقول من يقول مدد يا رسول الله أو مدد يا سيدنا البدوي أو غير ذلك ويعدون ذلك من الشرك الأكبر المخرج عن الملة. وسأسعى هنا في توضيح مسألة الاستغاثة على التحديد وبيان فساد زعمهم وضعف حجتهم.

وسأسلك في سبيل بيان ذلك طريقة الحوار المتوهم بين شخصين (مع العلم أن هذا الحوار افتراضي ولكن تقريبا كل جزء منه حقيقي وحدث مع أشخاص مختلفة في أوقات مختلفة)

أقول وبالله التوفيق

أنا: شوف يا سيدي ، يا من تقول الاستغاثة وقول مدد يا فلان شرك – لماذا تقول ذلك؟ وما دليلك على كون ذلك شركا؟

هو: هذا بسيط ومعلوم عند كل مسلم ، لأنه ببساطة كل طلب من غير الله حرام وشرك.

أنا: قولك “كل طلب من غير الله حرام وشرك” قول باطل ، وذلك لأنه يلزم منه أن قولي “ناولني الكوب” مثلا شرك ، لأنه طلب من غير الله . فلو كلامك صح يبقى أنا أشركت بهذا الطلب ، وأنت تعلم أن هذا الطلب لا إشكال فيه ولا شرك ولا غيره.

هو: لا لا لا ، أنت عارف إن هذا ليس قصدي ، لماذا “تُحَوِّر” الكلام!

أنا: أنا لا أحور الكلام ، أنا فقط آخذ ما تقول وأظهر بطلانه ، أنت الذي ينبغي أن تجعل كلامك دقيق بحيث يسلم من الاعتراض والنقض. وعليه أعيد عليك السؤال ، لماذا طلب المدد شرك؟

هو: هممم ، لأن “كل من طلب من الميت شيئا فقد أشرك – بخلاف الطلب من الحي فيجوز”

أنا: طيب جميل ، لماذا فرقت بين الحي والميت؟

هو: لأن الميت لا قدرة له من دون الله.

أنا: وهل تعتقد أن للحي قدرة من دون الله؟ أليس كل من أعتقد أن أحدا قادر من دون الله فقد أشرك سواء كان هذا الأحد حيا أو ميتا ، فنحن نعتقد أن المؤثر الحقيقي هو الله والحي والميت إنما تضاف لهم الأفعال بحول الله وقوته ، فالطبيب لا يشفي وإنما الشافي هو الله ، والطبيب سبب ، وعندما تناولني أنت الكوب فقد جعلك الله سببا لذلك ؛ والصوفية والسلفية وكل طوائف المسلمين ، لو سألتهم هل يقدر أحد أن يخلق أو يفعل أو يؤثر من دون الله لأجاب بالنفي واعتبر سؤالك إهانة له وتكفير له. وإذا ثبت أن الحي لا قدرة له على الحقيقة والميت لا قدرة له على الحقيقة فقد بطل الفرق الذي ادعيته وعليك أن تبحث عن سبب آخر أو تعيد صياغة كلامك.

هو: لا ، أنا لا أعتقد أن الحي قادر من دون الله على المعنى الحقيقي للقدرة ، إنما أقصد المعنى المجازي .. أو بتعبير آخر أوضح منه دعني أقول لك أن الله تعالى خلق الكون على وفق قانون الأسباب وجعل الطلب من الحي أحيانا سبب لحصول المقصود ، فالطلب من الحي هو من باب امتثال الأخذ بالأسباب والخالق هو الله ، بخلاف الميت فالميت ليس بسبب.

أنا: طيب معنى كلامك أن الحي يجوز أن تطلب منه لأنه سبب في حصول المقصود وهذا ليس بشرك ، والميت ليس بسبب فلا يجوز الطلب منه وهذا شرك.

هو: نعم هذا ما أقول به.

أنا: سأتنزل وأفترض معك أن طلب المدد من الميت ليس بسبب وأقول : هذا الكلام يلزم منه أن كل من اعتقد في شئ أنه سبب لشئ آخر على غير الحقيقة فقد أشرك ، فكما أن من اعتقد أن الميت سبب فقد أشرك على زعمك لأنه خلاف الحقيقة ، فيلزم من كلامك أن من اعتقد أن الخل ينبت الزرع فقد أشرك ، لأن العامل المشترك بينهما هو اعتقاد أن شيئا سببا لشئ على غير الحقيقة . فهل تقول أن من اعتقد أن الخل ينبت الزرع مشرك؟

هو: لا ، لا أقول بذلك.

أنا : إذا نوضح خطأ التعميم الذي بدأت به كلامك : من طلب السبب ممن ليس بسبب فقد أشرك .. هذا معنى كلامك ، في حين أنك توافقني على أن من اعتقد خطأ فيما ليس بسبب أنه سبب ليس بمشرك.

هو : صحيح ، إنما أقصد الطلب لا الأعتقاد .. طلبك من الميت شرك لأنه ليس بسبب.

أنا : إذا فلو دخلت مستشفى فتوهمت أن موظف الاستقبال هو الطبيب فقلت له : أسعفني ، فقد أشركت لأني طلبت ممن ليس بسبب؟! فلعلك الآن ترى أن دعوى الشرك خاطئة حتى لو تصورنا أن الموتى لا يقع منهم شيء أو لا يفعلون شيئا.

هو: طيب وهل الطلب من الميت فعلا سبب في حصول المقصود؟

أنا: شوف هذا هو ما ينبغي أن يدور الكلام حوله ، ولا مانع عندي من أن تعتقد أنه ليس بسبب ، ولكن لاحظ أن الكلام الآن في السببية من عدمها وليس في الشرك والفرق بينهما كبير ، وليس من هدفي أن أقنعك بكلامي لتقول “مدد يا فلان” ، إنما غاية مرادي أن تتوقف عن رمي الناس بالشرك.

هو: طيب ، ولكني لم أنتهِ من اعتراضاتي ، دعني أقول أن كل من طلب من غير الله – سواء كان حيا أو ميتا – ما لا يقدر عليه إلا الله ، أو ما هو من خصوص الربوبية – كالرزق مثلا – فقد أشرك .

أنا: طيب هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل . لو كلامك عن الطلب بالرزق مثلا مع اعتقاد أنه قادر على الزرق من دون الله – فأنا أقر أن هذا شرك ، فأنا رجل سني أؤمن أن الله تعالى خالق كل شئ كما ورد في النص القرآني . ولو كان قصدك مجرد استخدام اللفظ بغض النظر عن النية والسياق فلا أسلم لك ، بل القرآن نفسه يثبت بطلان هذا ، ألم يقل الله عز وجل {وارزقوهم فيها واكسوهم} ألا ترى أنه تعالى أسند فعل الإرزاق إلى آدمي! ومع ذلك لم يفهم أحد من هذا أنه شرك.
ومثله قوله تعالى {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} واستنصروكم معناها طلبوا منكم النصر – ولماذا يطلبون النصر من المخلوق والله يقول {أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن} ؟!
ومثل ذلك فعل الإنعام ، فالله تعالى يقول {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} – لاحظ أنه الله تعالى أسند فعل الإنعام إلى نفسه ، ثم أسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنعمتَ عليه) ، ومع ذلك فهو تعالى يقول {وما بكم من نعمة فمن الله}

ومثله قوله تعالى {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} مع أن الله تعالى يقول {الله يتوفى الأنفس حين موتها}

ومثله ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان [أسماء قبائل من العرب] فزعموا أنهم قد أسلموا.

فثبت من هذا أن سياقات الكلام مختلفة والمعاني التى تحويها الألفاظ مختلفة وإن تطابق اللفظ ، ومدار الأمر على النية ومراد المتكلم وليست على اللفظ لأنه لو كانت على اللفظ لثبت تناقض القرآن وهذا باطل بالضرورة. فإذا استخدام هذه الألفاظ ، كمدد يا فلان ، لا إشكال فيه إن لم يعتقد القائل أن المستغاث به ينفع أن يضر بنفسه وهذا معلوم بالضرورة عند كل مسلم ، وبقي مدار الأمر على السببية. فمن اعتقد أن طلب المدد من الصالحين سبب عند الله في حصول النفع جاز عنده طلب المدد ومن لا يعتقد أن طلب المدد من الصالحين سبب عند الله فيتركه ، وأقصى ما يمكن أن يقوله أن طالب المدد جاهل أو مخرف – أما مشرك ، فهذا كلام لا وجه له ولا يستقيم أبدا! لأنه لا بد أن يقع في تناقض لا محيص عنه.

هو: طيب أنا عندي اشكالين ، الأول أني تذكرت الآن أن مشايخنا السلفية قالوا أن من اعتقد أن ما ليس بسبب سبب فقد أشرك شرك أصغر، والثاني : ما دليلك على أن الطلب من الميت يمكن أن يكون سبب في حصول المقصود ؟

أنا: جميل ، هذا الكلام لا يخفى علي والحمد لله ، والكلام في الشرك الأصغر أهون بكثير من الكلام في الشرك الأكبر فجيد أنك تراجعت عن تهمة “شرك أكبر مخرج من الملة!” إلى شرك أصغر ، ولو أثبتَ أنه شرك أصغر (كالرياء وغيره) فأنا قد حققت مرادي وغايتي من محاورتك. وحقيقة هذا القول من بعض مشايخ السلفيين لا دليل عليه ومحض تحكم منه ومن غيره. ومن عنده دليل عليه فليقدمه. أما سؤالك الثاني فمسألة أخرى ، فلنجعل كلامنا هنا إجابة على ذلك السؤال بالخوض فى غمار التصوف ومعانيه..

لقد سألني الكثير عن التصوف وعن أمور متعلقة به ، وأكثر ما أُسأل عنه : الإشكالات المعلقة في أذهان الناس عن التصوف ، تلك الإشكالات التي نشرها أتباع الفكر الوهابي السلفي في العقود الأخيرة . وإن كان كل هذه الدعاوى الفارغة قد تم الجواب عليه بأوضح بيان من قبل أكابر وفطاحل هم أجدر مني ألف مرة ولكني عقدت العزم على معالجة أشهر هذه المسائل وبيان سطحية هذه الإشكالات هنا . خاصة وأن هناك الكثير ممن يمر علي ما أكتب ويقرأه ويحكم عليه ولا يسألني بيان ما أكتب ومعناه ودليله ومع ذلك فهو يحكم على كلامي في ذهنه بالبطلان من غير أن يستفسر وأحيانا يحكم على شخصي بالضلال – نعوذ بالله من ذلك . فلهؤلاء وغيرهم أكتب بإذن الله تعالى وتوفيقه .

لما هو التصوف ؟ وما المقصد منه ؟ ومن هم أهله؟

فأقول مستعينا بالله تعالى ، التصوف في حقيقته ممارسة وعمل ، وأي عمل لكي ينضبط لا بد له من علم يُقَوِّمه . فعلم التصوف هو العلم الذي يرشدك إلى الأعمال التي من شأنها أن توصل المسلم إلى مقام الإحسان في الدين .

وما هو مقام الإحسان ؟ هو ما جاء في الحديث المشهور عندما سأل سيدنا جبريل النبيَ صلى الله عليه وسلم ” فأخبرني عن الإحسان” ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . فالحقيقة أن التصوف هو الضلع الثالث لهذا الدين ، بعد الإسلام والإيمان كما جاء في الحديث ، ومن لم يتحقق بهذه الثلاثة فإن دينه لم يكمل بعد .

هذا الحديث نمر عليه كثيرا ولا نسأل أنفسنا ، كيف لنا أن نصل إلى مقام “أن نعبد الله كأننا نراه” ، أو ما يسميه العلماء مقام المشاهدة ؟ أو كيف لنا أن نستحضر “فإن لم تكن تراه فإنه يراك” أو ما يسميه العلماء مقام المراقبة ؟ فهذه هي وظيفة التصوف أو علم الإحسان ، فأنت إذا انضبطت بهذا السلوك ، فإن هذا السلوك من شأنه أن يوصلك إلى هذا المقام .

ومن مرادفات علم التصوف علم التزكية ، وهو ما أخبر الله عنه إذ قال سبحانه : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ((ويزكيهم)) ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. فهل سألت نفسك أين هي تزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أين معالمها ؟ أين طريقتها ؟ فهذا العلم النبوي الشريف موجود بفضل الله ومحفوظ فيما يسميه العلماء علم التصوف ولكنه عزيز وغالي فلا يقف على حقيقته في هذا الزمان إلا من وفقه الله واختصه بمزيد عناية ورحمة ، نسأل الله أن نكون منهم .

ومما يعرفك أكثر على ماهية التصوف أن تدرك بعض من تعريفات أهل التصوف للتصوف . ومن أشهر هذه التعريفات وأحبها إليَّ قولهم : التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً ، فيسري حكمها من الظاهر في الباطن، وباطناً، فيسري حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمالٌ .

والمراد بالظاهر أفعال الجوارح وبالباطن أفعال القلوب ، قال تعالى {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}

وكذلك من تعريفات التصوف : التصوف هو طرح النفس في العبودية ، وتعليق القلب بالربوبية ، واستعمال الأخلاق السنية ، والنظر إلى الله سبحانه بالكلية .

وكذلك قالوا : التصوف هو صدق التوجه إلى الله تعالى من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه . ولا يصح مشروط بدون شرطه {ولا يرضى لعباده الكفر} فلزم تحقيق الإيمان ، {وإن تشكروا يرضه لكم} فلزم العمل بالإسلام .

فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله تعالى الظاهرة إلا منه ،

ولا فقه إلا بتصوف ، إذ لا عمل إلا بصدق توجه ،

ولا هما إلا بإيمان ، إذ لا يصح واحد منهما بدونه ،

فلزم الجميع كتلازم الروح للأجساد .

ومن تعريفات التصوف قولهم ، التصوف صفاء ومشاهدة . والمراد بذلك أن الإنسان إذا صفت نفسه عن الشهوات ورعونات النفس وأمراض القلوب ، وتحلت بالفضائل والأخلاق سارت بذلك أهلا للوصول إلى مقام المشاهدة . فهذا التعريف جمع بين الطريقة والمنهج من ناحية والغاية والمقصد من ناحية أخرى . ولكن قد يتساءل السائل “هذا كله جميل ولا يعترض عليه أحد ، لكن ما الفائدة منه بالنسبة لي؟” أو “ما الثمار التي قد أحصل عليها إن سلكت هذا المسلك” . وجوابا على هذا السؤال جاء هذا المنشور فأقول وبالله التوفيق .. من مقاصد وثمار السلوك الصوفي الآتي :

١. حصول الإيمان الحقيقي

فمرتبة النفس المطمئنة مختلفة عن مرتبة النفس اللوامة ومختلفة عن النفس الأمارة . قال تعالى {وما منا إلا له مقام معلوم} .

وقد جاء في الحديث عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ” كيف أصبحت يا حارث ؟ ” قال : أصبحت مؤمنا حقا . فقال : ” انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ ” فقال : قد عزفت نفسي عن الدنيا ، وأسهرت لذلك ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . فقال : ” يا حارث عرفت فالزم ” ثلاثا ، وفي راوية “عبد نور الله قلبه” .

لاحظ قوله “مؤمنا ((حقا))” ، ولاحظ قوله صلى الله عليه وسلم “((عرفت)) فالزم” ، ومن هنا جاء استخدام مصطلح (العارف بالله) .الإيمان هنا عبارة عن زيادة يقين ، لأن اليقين تحول عنده من مجرد علم وعقيدة نظرية إلى مشاهدة وتجربة .

٢. التحقق بمعرفة الله تعالى

وهذه المعرفة هي الغاية من خلق البشر ، قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي إلا ليعرفوني كما ورد عن بعض السلف . وكيفية معرفة الله تتوقف على معرفة النفس {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ، “من عرف نفسه عرف ربه” ، ومعرفة النفس ومجاهدتها والارتقاء بها من أهم خصائص المنهج السلوكي الصوفي .

٣. أن تصير المعرفة الإجمالية : تفصيلية والمعرفة الاستدلالية : كشفية

فمن آمن بالجنة والنار إيمان نظري فحاله مختلف عمن كُشف عنه الغطاء وشاهد وعاين الجنة والنار كما ذكرناه في حديث حارثة السابق “وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون فيها” . وقد قال تعالى {واتقوا الله ويعلمكم الله} .

٤. إصلاح قلب العبد وجمعه على الله تعالى

وقد جعل الله تعالى حال قلب الإنسان محل نظره جل وعز ، قال تعالى {إلا من أتى الله بقلب سليم} ، وقال صلى الله عليه وسلم “في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.” وكيفية علاج القلب من أمراضه وتخليصه عن كدوراته من أهم سمات السلوك الصوفي . ولذلك قالوا : التصوف علم قُصِد لإصلاح القلوب وإفرادها لله عما سواه .

٥. الوصول إلى مقام التوحيد

وهذا المقام أسمى وأعلى المقامات ، وفي هذا المقام لا يرى العبد مع الحق سبحانه أحد وهو مقام عزيز وحالة إيمانية فريدة والكلام يعجز عن التعبير عن حقيقته .

وبعد هذا كله قد يظن البعض أن هذه المقاصد نوافل وزيادات والمسلم قد ينجو من غيرها كما ورد في الحديث “أفلح إن صدق” وهو في غنى عنها ، وهذا في أصله صحيح ، ومنهج التصوف والسلوك ليس لكل أحد ، فهمم الناس متفاوتة وعزائم النفوس متنوعة ، فمن الناس من يرضى بالقليل ومنهم من تتوق نفسه إلى أشرف المراتب . وقد قال تعالى في حق المقربين {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} ، وقال صلى الله عليه وسلم “ألا إن سلعة الله غالية” ، ومن شأن السلعة الغالية أن لا يحوزها إلا القليل . وقال تعالى {ولكل درجات مما عملوا} ، وقال {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} ، فمن رضي لنفسه الاقتصاد في جناب الله ومعرفته وسلوك الطريق إليه ليس كمن سابق بالخيرات إلى الله تعالى .. والسابقون السابقون أولئك المقربون . فلينظر كل صاحب همة إلى مبتغاه في العقل والنفس والقلب والجوارح..

بعد أن عرفنا التصوف وذكرنا أهم مقاصده فعلينا الآن أن نبين وسائل الوصول إلى هذه المقاصد . وبيان هذه الوسائل يتوقف على إدراك مكونات الإنسان واللطائف الربانية المودعة فيه وكذلك العلاقة بينهم ، ولأجل توضيح هذا المعنى نضرب هذا المثال :

هب أن مملكة واسعة عظيمة لها سور يحيطها وملك مطاع يقودها وجيش قوي يحميها ، ذلك الجيش لا يطيع أحدا سوى الملك فلا يعصيه ولا يعدو أمره . وكان للملك وزير رشيد حكيم يشفق على الملك ولا يألوه نصحًا ويرجو لمملكته الفلاح والدوام ، غير أنه لا يملك من أمر المملكة شيئا غير النصح لسيده . وللملك ولد صغير هو ولي عهده يحبه حبا شديدا مفرطا ، حتى أفسدَه حبُّه فصار الغلام لعوبا مدللا ، يطلب ما يريد وقتما يريد فلا يمنعه الملك ولا يرد له طلبًا . وللمملكة عدو متربص حاقد لا يريد بها إلا البوار والدمار ، إلا أنه لا سبيل له للنفاذ إليها لحصانتها ومناعة سورها ويقظة ملكها إلا بمعونةٍ مِن داخلها ، وهو لا يرجو العون من أحد من أهل المملكة مثلما يرجوه من ولي عهدها المدلل الذي يطمع في مُلك أبيه . يطلب ولي العهد من الملك أن يحرك الجيش بشكل غير سليم يكشف عورات المملكة و يسهل على الأعداء اختراق أسوارها، و يزين ولي العهد هذا الطلب لأبيه بطرق وحيل كثيرا ما جربها ونال بها مراداته. وسريعا يفطن الوزير الصالح لهذة المكيدة الخبيثة فينصح الملك بعدم الأخذ بهذا الرأي (تحريك الجيش) لما فيه من الخطر العظيم المحسوس. ولكن لشدة حب الملك في ولده والثقة العمياء التي يحوزها دون غيره من الحشم، يأخذ الملك بهذا الرأي ويأمر به قادة أركان الجيش.

وأهل البلدة يشعرون بالخطر ويشعرون بغباء هذا الرأي وبالضرر العظيم الذي قد ينتج عنه، فمن باب خوفهم على نفسهم وأموالهم يذهبون جريا إلى قادة الجيش – لا إلى الملك – يطلبون منهم العدول عن هذا الأمر وعدم تنفيذ هذا الأمر.

وقادة الجيش يفطنون لهذا ويعلمون أن هذا هو الأصوب ولكن كما قلنا هؤلاء يطيعون الملك طاعة عمياء ولا يخالفون له رأيا ولو كان فيه هلاكهم. فما تكون النتيجة إلا أن يهجم العدو على المملكة ويدك أسوارها ويهدم أبوابها ويتربعون على عرشها ويعيثون في الأرض فسادا.

وإليك تأويل المثل ، أما المملكة فهي جسد ابن آدم ،

وأما الملك المطاع فهو القلب ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ” .. ألا ، وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله . ألا ، وهي القلب . “

وأما الوزير الصالح الحكيم فهو العقل الذي قال الله تعالى في الذي لم يجعله قائده وقدم عليه الشهوات والرغبات {ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون} ،

وأما الجيش فهو جوارح الإنسان من عين وأذن ويد وقدم إلخ ،

وأما العدو المتربص بخارج أسوار المملكة فهو الشيطان {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} ،

وأما ولي العهد المدلل الخائن فهو النفس {إن النفس لأمارة بالسوء} .

فمن هذا المثل نعلم أن الجوارح تتبع القلب مطلقا سواء كان في الخير أم في الشر ، وتطيعه طاعة مطلقة عمياء . فمن يريد أن يغير من عمل الإنسان الذي يعاني من مرض القلب عن طريق جوارحه فقط فهو غالبا عابث لاهٍ مضيع لوقته وجهده كأهل البلد عندما استنجدوا بالجيش ولم يذهبوا للملك . ورأينا أيضا أن القلب يتأثر بالعقل تأثيرا ايجابيا محمودا ، وبالنفس تأثيرا سلبيا مذموما ، فهما يتصارعان فمن كانت له الغلبة أطاعه القلب وتبعته الجوارح .

ولأن الجوارح تتبع القلب مطلقا ، ونحن مأمورون بعمل الجوارح ، فدلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قِوام الصلاح وهو إصلاح القلب فأرشدنا في حديثه وقال “…إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله”

فما عسى أن يكون السبيل لإصلاح القلوب إذا ؟

لعلك علمت مما مضى أن القلب يتأثر بتأثيرين ، أحدهما سلبي وهو تأثير النفس الأمارة بالسوء ، والآخر ايجابي وهو تأثير العقل . فإصلاح القلب في الحقيقة هو إضعاف تأثير النفس في مقابل تقوية وتعزيز سلطان العقل .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم ” تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا . فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء . وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء . حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مُجَخِّيًا لا يَعرف معروفا ولا يُنكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ” ، فلا غَرْوَ أن ينحجب أثر العبادة عن قلبٍ قد غلفه الران وعلاه الصدأ وصار كالكوز المُنكَّس يحاول صاحبه أن يملأه على حاله وهيهات {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} .

نعم ، تؤثر العبادة في القلب ، بل هي تؤثر ولا ريب إذا توفرت الشروط لذلك ، انظر إلى ما يقول الإمام الغزالي في هذا المعنى : (وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح ، فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة ، وكل فعل يجري على الجوارح ، فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب ، والأمر فيه دَور)

انظر كيف أطلق فيض أثر صفة القلب على الجوارح ، وقيَّد ارتفاع أثر أفعال الجوارح على القلب . وهذا التقييد لأن ارتفاع أثر العبادة إلى القلب مشروط بشرطين هما كون العبادة مؤداة على صورتها الصحيحة ، وأن يكون القلب قابلا للأثر . فالعبد قد يتقرب إلى مولاه بأنواع من العبادات ، فإذا قُبلت منه يكون لها أثر ونور ، ولكن هذا النور قد يصل إلى القلب ولا يجد له مكان يحل فيه ، فارتحل عنه .. وفي هذا المعنى يقول سيدي ابن عطاء الله في حِكَمه :

أنوارٌ أذِنَ لها في الوصول ، وأنوار أذن لها في الدخول ، ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوًا بصور الآثار فارتحلت من حيث نزلت . فرِّغْ قلبك مِن الأغيار يملأْه بالمعارف والأسرار. اهـ

فتبين من هذا أن بداية طريق الهداية والسلوك إلى الله تعالى تكون بتطهير مرآة القلب عن التراكمات الظلمانية ليظهر في القلب انعكاسات الأنوار الرحمانية .

فبعد أن بينا لماذا وجب علينا أن نطهر القلب أولا ونجعله أهلا لقبول الهداية ، نشرح الآن بإذنه تعالى الكيفية العملية لذلك..

بينّا فيما سبقَ أن القلب الذي هو مناط العمل ومحل الإصلاح يتأثر بتأثير النفس والعقل كليهما ، وأن تأثير النفس تأثير خبيث مذموم وتأثير العقل تأثير حسن محمود ، وعليه لابد من ترويض النفس وكبح جماحها لإضعاف أثرها على القلب .. والطريق إلى تحقيق ذلك شيئين : الرياضة والذكر . أما الذكر فنرجئ الكلام عنه إلى منشور لاحق ، وأما الرياضة فأقول وبالله التوفيق :

طريق رياضة النفس وإذلالها يكون بمنعها عن شهواتها وكفها عن أهوائها. فإن كانت تعشق الأكل والطعام مُنعت النفس عنه إلا بقدر حاجتها ، وإن كانت النفس تحب الكلام والحديث بين الناس فينبغي تعويدها طول الصمت ، وهكذا مع كل الشهوات سواء كانت محرمة في أصلها أم لا .

واعلم أن معالجة النفس وتهذيبها لمِن أشق الأعمال وأصعبها ، ولكي يمضي المرء في ذلك لابد له من التحلي بهمة عالية وعزيمة ماضية ، يستعين بها على شهوات نفسه والخلاص من صفاتها المذمومة والتخلق بصفات محمودة ، وإلا سيضعُف عند رغبات نفسه ويركن إليها .

ولكن هل يمكن التخلق بقوة العزيمة حال ضعفها ؟ الجواب نعم ، وإليك الكيف :

هناك سلم أمراض و سلم صحة ، فلكي تقوى عزيمة الإنسان لا بد له من إحصاء شهوات نفسه وصفاتها المذمومة ، وذلك يكون بالتأمل والسؤال وغير ذلك . ثم يرتب هذه الشهوات من الأضعف للأقوى ، وهذا هو سلم المرض . وسمي كذلك لأن الإنسان يبدأ صعود هذا السلم بمعالجة هذه الشهوات واحدة فالأخرى عن طريق مخالفتها . ولا ينتقل إلى علاج شهوة أخرى إلا عندما يتملك من التي قبلها تماما ، وعليه ألا يستعجل النتائج. فإذا تغلب على بعض هذه الشهوات قويت عزيمته شيئا فشيئا وأصبح قادرا على مخالفة الشهوات الأقوى والأصعب . وقد لخص الإمام الغزالي هذا كله في قوله :

فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح ، ولا يصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة ، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه ، وليعددها ليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. اهـ

ولا بد من إدراك أهمية التقليل من المباح ، وخطر استرسال النفس في طلب المباح بحجة أنه مباح ، واعلم أن ذلك من مصائد الشيطان وألاعيبه . قال الغزالي :

فإن المحظور والمباح تشتهيها النفس بشهوة واحدة ، وإذا تعودت الشهوة المسامحة استرسلت اهـ

ويقول أيضا : فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح ، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباح طمعت في المحذورات. اهـ

وبعد إدراك هذا تأمل في قوله تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} ، وقوله {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} .

وللشهوات أصول أربعة : الأكل والكلام وكثرة المخالطة ، والنوم .. وأضداد ذلك هم أصول المجاهدة : الجوع والصمت والعزلة والسهر .

قال يحيى بن معاذ : جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه : القوت من الطعام ، والغمض من المنام ، والحاجة من الكلام ، وحمل الأذى من جميع الأنام ، فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات ، ومن قلة المنام صفو الإرادات ، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات ، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات . وليس على العبد شئ أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى . وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام ، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام ، حتى تنقطع عن الظلم والانتقام ، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام ، وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها ؛ فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات ، وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفاره في الميدان ، وكالملك المتنزه في البستان . اهـ

ولبيان أهمية تطهير النفس عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل ، اقرأ ما قاله الحارث المحاسبي رضي الله عنه : والتطهير هو الانتقال عن الشر إلى الأساس الذي يبني عليه الخير ، وقد يمكن أن يسقط البناء ويبقى الأساس ، ولا يمكن أن يسقط الأساس ويبقى البناء . ومن لم يتطهر قبل العمل ، فإن الشر يمنع العبد من منفعة الخير ، فترك الشر أولى بالعبد ، ثم يطلب الخير بعد . والنفس تجزع من التطهير ، و تفر إلى أعمال الطاعات ، لثقل التطهير عليها ، و خفة العمل بالطاعات بلا طهارة. اهـ

وكذلك ما قاله أبو القاسم القشيري في رسالته : ثم اعلم أن مخالفة النفس رأس العبادة وقد سئل المشايخ عن الإسلام فقالوا ذبح النفس بسيوف المخالفة. اهـ وبين شيخ الإسلام زكريا المراد بسيوف المخالفة وقال : وهو أول الطريق ، وذلك لأن النفس إذا اعتادت اللذات لا تنصرف إلى الطاعات إلا بالمجاهدات والتوبيخات الشديدة ومن ثم سميت هذه الأمور سيوفا وذبح النفوس قهرها ونقلها عن هواها. اهـ

وهذا ملخص بسيط لكيفية رياضة النفس وفكّها عن أسر شهواتها .. ومع أهمية ما شرحتُ يبقى ركن الذكر هو سلطان المجاهدة ومنشور الولاية وأقصر طريق إلى تحصيل المراد بإذن الله تعالى وحوله وقوته .

الذكر دواء

لو سعيت بين الناس تسألهم : أي الأعمال أفضل وأحب عند الله ؟ ستسمع إجابات شتى .. منهم من سيقول لك الجهاد في سبيل الله ، ومنهم من سيقول لك الصلاة ، ومنهم من سيقول لك بر الوالدين والحج وإطعام الطعام الخ .. والكثير من هذا قد ورد الخبر النبوي الشريف به ، وورد بغيره . ولكن في وسط هذه الروايات المتنوعة لم أجد رواية أبلغ ولا أجمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم :

ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله عزَّ وجلَّ .

ولم يُعرف عن طائفة من المسلمين التمسك بهذا الركن المتين كما تمسك به ساداتنا الصوفية . والسبب الذي دفعهم إلى ذلك هو إدراكهم مدى تأثير الذكر في تحصيل مقصدهم : الصفاء .. فالمشاهدة .

ولذلك قال أبو القاسم القشيري : الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه وتعالى ، بل هو العمدة في هذا الطريق ، ولا يصل أحد إلى الله إلا بدوام الذكر . اهـ

وفي وسط كل أنواع الثواب التي وعد الله تعالى بها الصالحين من عباده ، لا أجد ثوابا أعظم وأجل من قوله تعالى {فاذكروني أذكركم} .. فأي فضل وثواب يبتغاه المرء بعد هذا ؟!

إلا أن للذكر أهمية أخرى وبُعد آخر غير مجرد تحصيل الثواب ، فالذكر ((الكثير)) دواء للقلب وسلاح ضد النفس .. به ينجلي ران القلب وبه تُقهر نفس الإنسان . وهذا والله ما يغفل عنه أكثر الناس اليوم .

قال الإمام اليافعي : ذكر الله بالقلب سيف المريدين ، به يقاتلون أعداءهم ، وبه يدفعون الآفات التي تقصدهم . اهـ

ولذلك قالوا : الذكر أسرع دواء لتحصيل التوحيد الجامع ، وهو المركب الذي وضعه أهل الطريقة للمريدين فطووا به الطريق ، وهذا لا يحصل بمجرد تلاوة القرآن والصلاة والصوم .. وذلك لفهم أرباب الطريقة وأهل الحقيقة أن القرآن يتوقف على جلاء القلب ، فحكم الذكر كالحصى للنحاس المصدي ، وحكم غيره كالصابون . **

وقد أخبرني من أثق فيه من الأصدقاء أنه ما إن انتظم في الذكر الذي أعطاه له شيخه إلا ورأى في منامه رؤيا تدل بوضوح على كيفية تطهير الذكر أمراض الشهوات والذنوب التي تستقر في باطن الإنسان تماما كمشرط الجراح الذي يستأصل الأورام والخبائث من جسد المريض .

وقد أخبرني آخر أنه ابتلي بذنب لم يستطع مفارقته لأكثر من عشر سنين ، وقد حاول واجتهد ، ولم يُوفّق إلا بعد المحافظة والمداومة على ورد شيخه . وهذه القصص والتجارب الشخصية لا تنتهي .

وجاء عن الشيخ الدباغ : أن رجلا سأل ربه أن يُريَه موضع الشيطان من قلب الآدمي ، فرأى في المنام جسد رجل يشبه البلور (كريستال) يرُى داخله من خارجه ، والشيطان بصورة ضفدع قاعد على منكبه الأيسر له خرطوم طويل أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه ، فإذا ذكر الله : خنس ! .. وهذا موافق تماما لما رواه البخاري في معلقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس “

وهذا كله مصداق قوله تعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}

ولكن ، ليس كل ذكر بمرتبة واحدة ، فالذكر منه المنتج ومنه غير المنتج .. ولكي ينتج الذكرُ الأثرَ المرجو منه لا بد من مراعاة شروط وآداب ، قل من يفلح من لا يلاحظها .. فبتوفيق الله تعالى ومدده نفرد المنشور التالي للذكر المنتج وكيفيته ، وأنفع الأذكار وأسرعها في تحصيل الأثر المرجو .

اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وسدد مقاولنا واسلل سخيمة صدورنا وأذهب الدخل والران والأجبنة من قلوبنا .. اللهم آمين

بعد أن تكلمنا عن أهمية الذكر كدواء حقيقي وفعال لأمراض القلوب ورعونات النفس ، وجب علينا التنبيه على أنه ليس كل ذكر يُحدِث الأثر المرجو منه بالتساوي بل النفع يتفاوت. وذلك لأن اهتمام الصوفية بالذكر لم يتولد من مجرد ملاحظة حركة اللسان ، ولكن اهتموا بالذكر اللساني لأجل اهتمامهم بالغاية المطلوبة من هذه الحركة .. أي الأثر القلبي الباطني . فالذكر باللسان مبتدأ ووسيلة ، والذكر بالقلب غاية ومقصد .

ولكي ينتج الذكر الأثر الباطني المرجو منه لا بد من ملاحظ آداب وشروط. لا نقول أن أثر الذكر ينعدم عند غياب أحدها ، ولكنه يقل ويضعف .. وعلى قدر التمسك بهذه الآداب يكون رجاء حصول النفع بحول الله وقوته. وإنما علم أهل الله هذه الآداب عن طريق التجربة ؛ فالنفوس واحدة ، وملاحظة آداب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها دالة على جوامع وأصول هذه الآداب ، كتعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء ثم اعتكافه في مسجده بمعزل عن الناس واختيار الثلث الأخير للقيام وهكذا .

١. تلقي الذكر من شيخ مُسلِّك مأذون ، قد تلقاه هذا الشيخ من شيخه المأذون ، وهكذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (وسنفرد لهذا الأمر منشور خاص به إن شاء الله تعالى) .

٢. إعطاء الذكر حقه من حيث الوقت – فلا يخصص للذكر فضول الأوقات بل يفرد له وقت مخصوص يتوفر فيه انتباه الإنسان ونشاطه .

٣. التوبة والندم على الذنوب والمخالفات ، ولذلك قد استحسن المشايخ البدء بالاستغفار لعدد ما مع عقد العزم على عدم العود إلى الذنوب والمخالفات والتحقق ببقية شروط التوبة المعروفة .

٤. الطهارة الكاملة من غُسل ووضوء ، مع نظافة البدن والملبس ، وطيب الرائحة ، لأن الملائكة تنفر من الروائح الكريهة .

٥. الجلوس متوجها إلى القبلة ، على هيئة الجلوس في الصلاة ما أمكن .

٦. اختيار مكان الذكر . فعلى الذاكر أن يذكر في مكان بعيد عن المؤثرات والأصوات وكل ما من شأنه التشويش عليه ، وعليه أن يختلي عن كل هذا ليُبعد بذلك كل ما يمكن أن يشغل قلبه ويشتت تركيزه ويُضعف همته .

٧. اختيار المكان المظلم إن وجد وتيسر .

٨. اختيار الأوقات الفاضلة ، كبعد الفجر والمغرب ، والثلث الأخير من الليل .

٩. تغميض العينين لتنسد طرق الحواس الظاهرة ، وبسدها تنفتح حواس القلب الباطنة .

١٠. الصدق في الذكر من غير رياء ولا عجب ، وأن يستوي عنده السر والعلانية .

١١. استحضار معنى الذكر في قلبه على اختلاف درجة المشاهدة في الذاكرين ، بشرط أن يعرض على شيخه كل شئ ترقى إليه من أذواق ليعلمه كيفية الأدب فيه .

١٢. أن يذكر المريد بهمة جامعة وقوة تامة واجتهاد بحيث لا يبقى فيه متسع ، فكل من ليس له بداية محرقة ليس له نهاية مشرقة .

١٣. اختلفوا في الجهر أو الإسرار ، ولكن الغالب في الناس هذا الزمان ضرورة الجهر بالذكر ، فالجهر بالذكر ، مع القوة فيه (ولكن من غير تكلف وتعسف) ، مع الخلوة ، من أقوى الأسباب الموجبة لتنوير باطن الإنسان وتحصيل الأثر المرجو .

١٤. المواظبة والاستمرار ، فحال القلب المريض كالصخرة ، إن صببت عليها سيل من الماء لم تتأثر ، وإن قطر عليها الماء قطرا تفتت الصخرة ولو بعد حين .. ولذلك فالمواظبة اليومية من أهم الشروط .

وبعد التحقيق بهذه الشروط والآداب قد يحصل حال للذاكر كإحساس بحرارة زائدة أو قشعريرة أو نوبة بكاء ، أو لا يحصل شئ من ذلك ، وينبغي للذاكر أن لا ينتظر شيئا أصلا . فالذاكر عابد ، والعبد ليس له حق عند سيده أصلا ليطلبه ، وهذا والله هو أصل الأصول وباب الأبواب . فكلما تذلل العبد عن حق وإخلاص ، وسلم وفوض أمره إلى الله تعالى وأظهر فقره إليه وأدمن طرق هذا الباب كان الوصول أقرب والحال أكمل .

وجاء في تلخيص المعارف : ولقد وجدنا كثيرا من المريدين يطلبون الأحوال ويريدون علم حركة القلب وارتعاشه وحصول الذوق واللذة في الذكر وظهور الأشياء في النظر ، لكن الإمام الرباني قال : إنه داخل في اللعب واللهو ، بل كلما توجد المشقة في الذكر يكون أفضل وأنفع . اهـ

فإذا علمت هذا ، فعليك أن تدرك أن كل ذكر تقوله من استغفار وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، فينبغي أن تؤديها جميعها بملاحظة امتثال الأمر لا غير كامتثال قوله تعالى {استغفروا ربكم} وقوله {صلوا عليه وسلموا تسليما} وقوله {اذكروا الله} وهكذا .

هنا لنا وقفة بإذن الله تعالى حول الشيخ وضرورته في السلوك إلى الله .

في شروط ومقومات الشيخ

بعد أن علمنا أن أهمية اتخاذ الشيخ لعلاج الأمراض الباطنة كأهمية اتخاذ الطبيب لعلاج الأمراض الظاهرة ، وجب علينا توضيح وبيان الشروط والمقومات التي يجب توفرها في الشيخ المرشد.

ومن هذه الشروط :

١. كون المرشد مأذونا له بالإرشاد ، قد سلك على يد شيخ آخر مأذون له بالإرشاد والتسليك ، وهكذا بسند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

٢. أن يكون عالما بما يحتاج إليه المريدون من الفقه ، وعقائد التوحيد ، بقدر ما يصحح به الشيخ أفعال المريد واعتقاداته كي تتوافق مع ما عليه جمهور أهل السنة ويستطيع به الجواب عن الإشكالات المعاصرة. فكل من جهل أُسس الفقه والعقيدة فلا يحق له التصدر لمنصب الإرشاد ووجب التحذير منه.

٣. أن يكون عالما بكمالات القلوب وآدابها ، وآفات النفس وأمراضها وكيفية حفظ صحتها واعتدالها.

٤. أن يكون رؤوفا رحيما بالمسلمين ، خصوصا بالمريدين.

٥. أن تتوفر لديه من الفطنة ما يستطيع به ملاحظة حال كل مريد وتكليفه من الأعمال والأوراد على حسب قابليته واستعداده ؛ فمن المريدين من يستطيع تحمل التكليفات الثقيلة ومنهم من الأفضل له المواظبة على القليل مع الحفاظ على أعماله الدنيوية وهكذا. فإن عامل الشيخ كل المريدين معاملة واحدة فغالبا ما يكون ضرره أكثر من نفعه.

٦. المريد يستأمن الشيخ على حاله فيجب على الشيخ أن يستر ما اطلع عليه من عيوب المريدين.

٧. أن يكون في الحالة الوسطى في جميع أحواله من جوع وشبع ونوم وسهر وقبض وبسط . والحالة الوسطى هي ما بين الإفراط والتفريط ، ولا يقدر عليها إلا الكُمَّل من الرجال ، ولذا كان من اتصف بها صالحا للإرشاد بلا محال.

٨. أن يكون قد استوى عنده المأكل والملابس.

٩. أن يكون غني النفس ، وحسن الخلق لا يغضب إلا لله ، وإذا جاءه أحد يريد الإرشاد لا يكون في وجهه عابسا.

١٠. أن يكون جلاله ممزوجا بجماله ، وغضبه ممزوجا برضاه ، وقهره ممزوجا بلطفه.

والحاصل من جميع هذا أن شروط الشيخ المرشد قد نلخصها في أمرين : الإجازة والاستقامة. وأما الكرامة فليست بشرط للشيخ المرشد ؛ مع العلم أن أفضل الكرامة : الاستقامة.
(أي الاستقامة على أحكام الشريعة المطهرة)

وكما حذرنا في المنشور السابق من التسرع في الانتساب إلى شيخ ، فينبغي أن نحذر من الانقياد لدعوى من يزعم انتفاء وجود الشيخ المرشد المرشد المربي في هذا الزمان . وهذه دعوى وإن كانت رائجة إلا أنها دعوى باطلة ؛ وغاية ما في الأمر أن هذا القائل لم يجد الشيخ المرشد ، وعدم الوجدان ليس دليلا على عدم الوجود ، ولعله رآه ولكن حُجب عنه لعلة ما . ولذلك فالصدق في الطلب ، مع التحري والاحتياط ، من أهم ما ينبغي أن يتصف به من لم يُوفق بعد إلى الشيخ المرشد.

وفي الجملة فالشيوخ نوعان ؛ شيخ التعليم وشيخ التربية . فشيخ التعليم هو الذي تتلمذ عليه ليعلمك العلوم الظاهرة كالفقه والعقيدة واللغة وغير ذلك ، وهذا لا إشكال في تعدده ، بل تعدد مشايخ التعليم أمر حسن ومطلوب . وشيخ التربية هو في تعهد النفس في الباطن ، وهو على درجات ، ولا يتعدد بل تتخذ شيخا واحدا ولا تلتفت إلى غيره.

وعلى قدر سعيك واجتهادك وصدقك ترزق بالشيخ الذي يليق بك في المرحلة التي أنت فيها ، فلا تحتاج إلى الكامل وأنت يغنيك من هو أقل كمالا (مع أهمية عدم ملاحظة نقصه بالنسبة لغيره لما يوجبه هذا من سوء الأدب الموجب لحرمان الاستفادة). فالكمال ليس شرطا في الأهلية للإرشاد ، والمشايخ لا يمنعون من الإجازة بالتربية والسلوك لكل من يصلح للتربية والسلوك وإن لم يبلغ درجة الكمال العليا .. ولكنه قطع شوطا أوسع منك في السير إلى الله حتى تمكن من معرفة الطريق ومزالق النفس فيصلح للإرشاد … كدليل القوافل في الصحراء لولا علمه بالطرق ومواضع الماء لما اهتدى في الصحراء أحد.

وهذا قيد يغفل عنه الكثير من الناس اليوم ، فتجدهم يمتنعون عن السلوك بحجة فقدان الشيخ الكامل صاحب الكرامات البيِّنات والنور الساطع الذي رسموا صورته في مخيَّلاتهم على حسب ظنهم وأهوائهم .. وهذا الحجاب مُنع به الكثير من الناس إلا من منَّ الله عليه.

فالشيخ الكامل قد يعطي الإجازة لمن عَلِمَ فيه القدرة على أداء حقها وإن لم يكن هذا المُجاز قد وصل الى درجة الكمال. فمن وجد شيخا صالحا للإرشاد فلا ينبغي أن ينظر إليه مجردا ، ولكن لا بد أن يضع في الحسبان حال من أجازه بالإرشاد وحال مشايخ السلسلة التي ينتمي إليها هذا الشيخ. فانظر إلى من يوصلك بهم الشيخ لأنه إن صحت نسبتك إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فزت بالمطلوب ، حتى ولو كان ظاهر حال الشيخ الذي انتسبت إليه لا يتوافق مع ما رسمتَه في ذهنك .. بشرط تحقق الشروط المذكورة آنفا.

ولكن مع هذا فالكثير منا لا يجد الشيخ المرشد المربي ، فما الذي يجب على كل من أراد السلوك ولكن لم يجتمع قلبه على شيخ مرشد ؟

إذا صدق الإنسان في رغبته سلوك الطريق إلى الله عز وجل ، واعتقد وسَلَّمَ بأهمية الشيخ المرشد ، وآمن بوجوده ولكن لم يوفقه الله تعالى إلى الوقوف عليه فأنصحه بأمرين :

١) صدق التضرع إلى الله بالدعاء والاستخارة المتكررة على أن يجمعه الله تعالى بمن يرشده إلى علاج باطنه والتخلص من آفات نفسه.

٢) الإكثار من الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي شيخ من لا شيخ له.

وفي بيان أفضلية هذه الأذكار أقول :

تجد أكثر الطرق الصوفية اعتمدت ثلاثة أذكار رئيسية ألا وهي الاستغفار والصلاة على النبي والتهليل (قول لا إله إلا الله) .

وقالوا الاستغفار .. تطهير ؛ لأنه بالاستغفار يتطهر الإنسان من ذنوبه ومعاصيه الموجبة لحصول الران الحاجب للأنوار ، ويكون المستغفر أهلا لتقبل الفيوضات الإلهية وانعكاساتها على مرآة قلبه.

والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .. تنوير ؛ أي جعلها الله تعالى سببا لتنوير باطن الإنسان.

والقلب إذا تطهر واستنار كان أهلا لقبول الفيض الإلهي ، فقالوا : ولا إله إلا الله .. تعمير .. وبهذا الذكر يمتلئ القلب ويعمر بكمال التوحيد .

فمن لم يقف على الشيخ المرشد فعليه أن يرفع من استعداده بالإكثار من الاستغفار والصلاة على النبي ، بالشروط التي ذكرتها في المنشور رقم (٧). ولعل أقل ذلك عدد ٥٠٠ من الكل. ولكن هذا لا يصل إليه الإنسان دفعة واحدة ، وخير الأعمال أدومها وإن قل. فينبغي للصادق أن يبدأ بما يتيسر له ، ومع المحافظة عليه يتعود الإنسان وتتيسر له الطاعة ، فيسهل عليه الزيادة بإذن الله تعالى .

ومن صيغ الاستغفار الطيبة :

أستغفر الله العظيم
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه
أستغفر الله من جميع ما كره الله قولا وفعلا وخاطرا وناظرا وأتوب إليه
دعاء سيد الاستغفار

وغير ذلك

ومن صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :

الصلاة الإبراهيمية
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النور وآله
اللهم صلِّ على سيدنا محمد النور وآله عدد كمال الله وكما يليق بكماله
اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم
اللهم صل على سيدنا محمد طب القلوب ودوائها وعافية اﻷبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها وروح اﻷرواح وسر بقائها وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله

فيختار الصادق من هذه الصيغ أو من غيرها ما يرتاح له قلبه ، وعلى حسب ما يتيسر له من وقت وجهد. بالاستمرار على ذلك وصدق التضرع والطلب إلى الله عز وجل يتيسر له كل عسير وينحل له كل صعب بإذن الله تعالى وفضله.

في الأولياء وكراماتهم

كتبت حول مقاصد التصوف جملة وأهم مقاصد وغايات الطريق الصوفي ولكني تغاضيت عن ذكر مقصد هو الأهم وغاية هي الأسمى .. ألا وهي ولاية الله تعالى. وولاية الله تعالى ركن ركين من السلوك الصوفي ولذلك تجد أن أعداء التصوف والمنكرين على الصوفية يعادون الأولياء ومفهوم الولاية بكل شراسة. فما هي هذه الولاية؟

فالولي في اللغة : هو المحب التابع ، وفي العرف : هو العارف بالله تعالى وصفاته ، المواظب على الطاعات ، المُجتنب للمعاصي ، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات المباحة.

والولاية درجات ؛ فهناك ولاية عامة تشمل كل مؤمن ، وهناك ولاية خاصة تختص بقوم دون قوم. فالولاية العامة هي التي قال الله تعالى فيها {الله وليُ الذين آمنوا} ، والولاية الخاصة هي التي قال الله تعالى فيها {إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}. أو قد نقول كل مؤمن ولي ولكن تختلف درجات الولاية على حسب اختلاف درجات الإيمان والتقوى.

لاحظ أن هناك من مُنكري التصوف من ينكر وجود الولاية بالمعنى الخاص ولا يثبت إلا الولاية العامة للمؤمنين بقوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا} ، وينكر تخصيص طائفة من المؤمنين بولاية خاصة – كالسيد البدوي مثلا .. فالرد على هؤلاء من وجوه :

الأول : نعم صحيح أن كل مؤمن هو ولي لله تعالى بالمعنى العام ، لكن اختلاف درجات الإيمان والتقوى ثابت بالنص القرآني {ولكل درجات مما عملوا} ، {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وغير ذلك مما لا يُحصى .. وكذلك ثابت بالمشاهدة والعيان .. فلا ينازع عاقل أن درجات الإيمان والتقوى تتفاوت بين الناس ؛ فإذا كانت درجات الإيمان متفاوتة .. وكانت الولاية تابعة للإيمان .. فدرجات الولاية كذلك متفاوتة ، وإذا ثبت التفاوت ثبت العموم والخصوص.

الثاني : الله تعالى نص على هذا الفرق إذا قال سبحانه {والله ولي المؤمنين} وقال {والله ولي المتقين} .. والتقوى درجة أعلى من الإيمان (الذي هو هنا بمعنى الإسلام).

الثالث : السنة المشرفة أثبتت بدلالة الإشارة وجود الولاية الخاصة ، فقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى” قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم قال “هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس” وقرأ هذه الآية {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

فظهر من هذا الحديث أن هذه المزية خاصة بطائفة من المؤمنين وليست عامة لجميع الأمة.

وأوضح من ذلك ما رواه الإمام البخاري أن الله قال “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه” .. وهذا الحديث نصٌ قاطعٌ! لأنه معلوم أن ليس كل مؤمن بلغ هذه المرتبة ، وإنما هي مرتبة لم يصل إليها إلا خواص الخواص ، جعلنا الله تعالى منهم.

فإذا علمنا ذلك علمنا أن الولاية العامة التى تكون للمؤمنين غير الولاية الخاصة التي قال الله فيها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم “كنت سمعه الذي يسمع به” الى آخر الحديث.

هذا والحمد لله رب العالمين

المقال بقلم الاستاذ الدكتور احمد الصباحي..