امي العزيزة

اشتقت للكلام معك كثيرا واشتقت أن أسمع منك اعذب القصص والحكايات والمواقف بأسلوبك الشيق الجميل، واشتقت أيضا أن أحكي لك ما بي وماذا أشعر وما حدث وكيف كان يومي. فقررت ان أكتب لك هذه الرسالة، حتى إن لم تقرئيها، فقادر ربي ان ينقل لك ما فيها حتى نلتقى يوما ما…
تغيرت الدنيا من بعدك كثيرا يا أمي، لعل فراقك الأرض لم يكن إلا منذ أربعة سنوات فقط ولكن تلك السنوات وكأنها عشرات وأكثر.. بل إن الأيام الأخيرة على الأرض تبدو وكأنها لقطات من عصر ما، بعد مئات السنوات..

لن أحكي لك كيف يتغير بعض الناس ويظهر معدنهم الحقيقي فى المواقف.. ولا كيف أن بعضهم لا تعي قلوبهم كلمات الله “هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ”، لذا أعلم أولادي ان يكون الإحسان لله ليأتيهم راجعا من الله لا من خلقه.. لن أحكى لكى لأنك كنت تعلمين ذلك جيدا ولعل ما رزقك الله من فطنة وبصيرة كان يجعلك تقرئين الناس وتنصحين وكان جهلي هو ما يجعلني اعارضك، سامحيني يا أمي أرجوك..

أقسم لك يا أمي أن الله أثبت لى وأراني خيرا فى كل من كنت تحبين وأراني حقيقة قلوب كل من حذرتي منه وكل من ابعدتيني عنه.. وكل هذا بشكل عجيب لم أسعى فيه بأي طريقة نهائيا.. بل وكأنك دعوتِ الله فى لحظاتك الأخيرة بأن ينير بصيرتي فاستجاب لك..

لا تقلقي يا أمي، انا بخير، ادرب قلبي ان يكون لله واجاهد بكل ما أوتيت من همة وقوة أن أخرج منه كل من يبعدني عن الله او ما يلهيني عنه.. فأحاول أن انظفه بانتظام من كلمات الناس السامة ومن مواقفهم المؤلمة ومن كل أثر سيء لهم فيه وارتب فيه الأولويات والدرجات لمن تبقى.. ليتك تقرئين ما أكتب لتدعى لي الله ان أنجح فى ابتلاءات البشر وان أخرج من هذه الحياة بالسلام الذي جئتها به منك، فلا أكون سببا فى ألم لأحد ولا أتألم من أحد.. دائما ما أدعو الله ان يقربني الله ومن احب ممن يحب وان يبعدنا عن من لا يحب وأن يكفينا شرورهم وامراض نفوسهم وكل ما يؤلم منهم..
ادعو الله لمن احب كما أدعو لنفسى، فالحب فى الله الواحد لقريب او بعيد، يوحد القلوب، فلا أراني الله فيهم سوء او ألم ما احياني ولا حرمني حبهم..

أتعلمين يا أمي، رغم احتياجي الشديد لك الا أن الله قد أخذك من على الأرض فى توقيت حكيم.. أعلم انك كنت لن تستطيعي الحياة لو علمت بمرض خالي الذى ظهر بعد وفاتك ولن تتحملي رؤية آلامه او آلام فراقه عنك بالموت، ذلك الموت الذى لم يفصله إلا عام عنك.. وكأن الله يعلم حبكما وفرحة لقائكما فى الدنيا فجمعكما سريعا فى نفس القبر.. سبحان الله مات كل من تحبين فى حياتك وانت بعيدة عنهم فى سفر، وكأن الله يحفظك من لحظات الفراق لأنه كان يعلم رقة مشاعرك.. فأتم نعمته عليك في اخيك الحبيب ايضا..
ولذلك أدعو الله أن لا يحملني ما طاقة لى به فى من أحب فى تلك الحياة.. فهو الحكيم الرحيم..

سبحان الله، ان هذه الأيام التى نعيشها بوبائها كانت ستكون أصعب كثيرا بخوفي عليك فأمنك الله منها..
لم أحكي لك عن هذه الأيام بعد، قد اجتاح العالم مؤخرا فيروس اسمه كورونا وغير الدنيا كلها.. منذ ان سمعت عنه واغلقوا المدارس وانا لم أغادر منزلي نهائيا.. هذا ما طلبوه منا لحماية المجتمع من انتشار هذا الوباء وبالفعل ٣٥ يوما كاملا لم أخرج من منزلى لأى مكان ولا حتى لاشترى شيئا، وكأنني فى حظر فى منفى، شعرت وكأنني اختنق.. انت تعلمين يا أمي كم أحب الناس وكم أفرح برؤيتهم وكم تغذيني احضان صديقاتي وتعطيني من الحب والأمان والسكينة ما يكفيني لأعيش بيهم هذه الحياة فى وحشة الغربة.. حرمتني الكورونا من كل هذا.. وشعرت بوحدة جديدة ومختلفة عن تلك التى سبقتها..
كأن تشعري بالعطش مثلا وامامك ماء لا يمكنك الاقتراب منه أو لمسه..
لى صديقة أمريكية على مشارف الولادة.. وقرر اصدقائي الأمريكان ان يمروا على منزلها ويتركوا لها الهدايا عند الباب ويقولوا لها مبروك، ونحبك، ويلوحوا لها من بعيد ويذهبوا.. اعجبتني الفكرة، واحببت ان اسعد مخلوق لعل الله يخفف ما انا فيه فقررت ان اشاركهم.. وبالفعل خرجت لأول مرة لاشترى هدية لها بالأمس ويالهول ما رأيت هناك وانا اشتريها..
والله يا امي شعرت وكأنني فى حلم.. او فى فيلم من تلك الأفلام التى لا أحبها ولا أهوى مشاهداتها مثلك. أفلام الرعب والخيال العلمي، اتذكريها؟
كنت اختار أن لا اشاهدها طوال حياتي ولكن الله أراد ان أعيش أحدها الآن..
كل من رأيتهم فى المكان من حولى يرتدون الكمامات وأغلبهم يرتدي القفازات والكل يتعامل ويتحرك برعب وتوجس وكأن البشر من حولهم وحوش تقترب..
قاموا بتحديد أتجاهات ثابتة ومحددة على أرض المكان للسير.. فمن يمشي ينظر بحذر أسفل منه وأمامه وجانبه.. وإن مسك شيء يطهر يده فورا.. لن أخفى عليك الأمر انقبض قلبي بما آلت إليه الحياة وأصبحت لا أعلم امكوثي فى البيت حد الاختناق أصعب ام خروجي لحياة كهذه!!

لا أعلم ما أسباب ما نحن فيه أو إن كان سيستمر او سينتهى وكيف ستكون الأيام به ولا أعلم ما سيكون بعده ولكنى أخيرا لم أعد أريد ان أعرف.. أمرن عقلي كل يوم على ان أترك الأمر كله لله..
ولا أخفى عليك القول، فجهاد للقلب من البشر وجهاد للعقل من الأحداث فى غياب دعواتك ورؤية وجهك الجميل وابتسامتك المشرقة وسماع صوتك المبهج ليس بالأمر الهين، ولكنها الحياة وفيها كل ما أراد الله ان يكون وانا أحب الله وأحب ما يكون منه.. ولازالت نعمه تغمرني ولطفه يواسيني من حين آخر ليربط على قلبي ولأعلم انه معى ويسمعني ويجيرني ويحفظني ويستجيب..
فالحمدلله على ما خلق الله وما قدّر الله والحمد لله انه الله..

واحدة من أكبر نعم الله التى تمنيت ان اقولها لك وانا انظر فى عينك.. ان الله قد رزقني شيخ مربي منذ ثلاث سنوات.. أعلم أن أمر صعب التصديق، والله يا أمى حتى أنا لا أعرف كيف حدث هذا، فأنت أكثر من يعلم انه أمر عجيب جدا.. ولكن سبحان الله العظيم.. يغير ولا يتغير.. تغير قلبي تماما وأصبحت أحب الأولياء وزيارتهم.. هل تذكرين كم كنت اعارضك فى هذا وانهاك عنه واشد عليك فى النهي؟ كل ما فى الأمر انى كنت لا أرى ما ترين، وعندما أراد الله وأزاح الغمة رأيت.. ليس فقط حب الأولياء ما تغير، بل أيضا أصبحت أحب مسبحتك التى اهديتيني اياها قبل وفاتك بسنوات.. اتذكرين؟ وكنت تسأليني إن كنت أذكر الله عليها ام لا، فاتحجج لك بضيق الوقت.. حتى هذا تغير يا أمي وأصبحت المسبحة أقرب الأشياء لقلبي وبعدى عنها يؤلمني كثيرا وأصبح فيها الصبر على كل ما يؤلم وكل ما يقلق.. وكأن الله رزقني الله حبها عندما احتاجت كل ذرة فى قلبي لها وكلما مسكتها تذكرتك وابتسمت..

كم كنت أتمنى أن أرى وجهك وانت تسمعين ما أقول او تقرئين ما اكتب ولكن والله وكأني أراه.. فملامحك مازالت فى عيني وصوتك مازال فى خاطري.. ادعو الله لك ما استطعت.. واطلب منه ان يستجيب دعواتك لي، لعلها المنجية..

اتركك الآن يا حبيبتي فى أمان الله
وإلى لقاء سعيد أرجوه من الله

من ابنتك رانيا
الولايات المتحدة الأمريكية فى ١٩ ابريل ٢٠٢٠

رانيا زيت حار

Leave a comment